إسرائيل- تكميم الإعلام وتعتيم الحقائق في حرب غزة.

المؤلف: د. عمار علي حسن10.06.2025
إسرائيل- تكميم الإعلام وتعتيم الحقائق في حرب غزة.

في خضم حروبها المتعددة، لم تلجأ إسرائيل إلى التعتيم الإعلامي بالحدة التي شهدتها عقب اندلاع عملية "طوفان الأقصى". بهذا التصرف، قلصت إسرائيل جزءًا آخر من رصيدها الديمقراطي المحدود، الذي لطالما تفاخرت به، وقدمته كدعامة أساسية لتحسين صورتها وتسويقها، لا سيما في العالم الغربي. سعت إسرائيل من خلال هذا الترويج إلى التعويض عن التمييز الذي تمارسه ضد العرب من حاملي جنسيتها، وضد بعض اليهود الأفارقة، وعن الفصل العنصري المفروض على سكان الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين، بالإضافة إلى تحريف الحقائق وتقديم صورة مشوهة عن العرب في وسائل إعلامها.

خلال هذه الحرب، أمعنت إسرائيل في إسكات الأصوات التي تفضح حقيقة "الإبادة الجماعية" في غزة، حيث قتلت ما يزيد على 175 صحفيًا فلسطينيًا، واعتقلت 32 آخرين، وأغلقت مكاتب العديد من وسائل الإعلام العربية، ومنعت طواقمها من العمل في غزة، بما في ذلك قناة "الميادين" اللبنانية وقناة "الجزيرة". ولم تكتفِ بذلك، بل أغلقت مكتب قناة "الجزيرة" في رام الله، وفرضت قيودًا مشددة على المراسلين الحربيين الميدانيين، وحتى على الصحفيين الإسرائيليين الذين يعملون في القنوات الفضائية أو يكتبون المقالات والتقارير في الصحف.

وامتدت يد الرقابة العسكرية لتطال المواطنين العاديين، الذين يقومون بتصوير مقاطع فيديو بهواتفهم الذكية ونشرها على الإنترنت، والتي تتضمن تعليقات أو إشارات إلى الخسائر التي تتكبدها إسرائيل جراء صواريخ المقاومة الفلسطينية وحزب الله.

التحول الجذري في السياسة الإعلامية الإسرائيلية

في الماضي، كان الإعلام الإسرائيلي بمثابة مصدر موثوق للأخبار حتى بالنسبة للمواطنين العرب، خاصة عندما كان يكشف عن تفاهمات أو اتفاقيات مع أنظمة عربية، أو عن الزيارات السرية التي يقوم بها مسؤولون من تلك الدول إلى تل أبيب.

وقد ساهم في ذلك وجود معارضة إسرائيلية قوية تسعى لتقويض صورة الحكام، وتعدد التوجهات السياسية التي تتوزع عليها وسائل الإعلام المختلفة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. كما أن الاهتمام بالأخبار الإقليمية والعالمية كان كبيرًا، بالإضافة إلى وجود منظومة قوانين تحمي حرية الرأي والتعبير.

ولكن مع تحول نظام الحكم، في ظل رئاسة بنيامين نتنياهو وحلفائه من اليمين المتطرف، نحو نوع من "الاستبداد" الذي قد يصل إلى "الشمولية"، بدأت السلطة في تضييق الخناق على الإعلام، واستبعاد الأصوات المعارضة، وجذب الأصوات الأخرى إلى دائرة التعبئة والتحشيد التي تدعو إلى الوحدة في مواجهة "خطر وجودي" يهدد "دولة إسرائيل" بأسرها. ومع مرور الوقت، بدأت إسرائيل في إخفاء أو تجميل الحقائق، والالتفاف عليها من خلال الكذب والمراوغة والتضليل.

تكثيف الرقابة خلال الحرب الدائرة رحاها

لا يمكن مقارنة تعامل الإعلام الإسرائيلي مع الحرب الحالية بما كان عليه الحال خلال الحرب على غزة عام 2021 أو على حزب الله عام 2006. ففي تلك الحروب، كان الإعلام العبري، أو الإعلام الصادر باللغة الإنجليزية من تل أبيب، مصدرًا للأخبار والمعلومات المهمة التي تكشف عن ملامح الموقف، وتفضح تقصير الحكومة، وتبين المشكلات التي تعتري العمليات العسكرية.

أما في الحرب الراهنة، سواء في غزة أو لبنان، فقد تم تشديد قبضة الرقابة الحكومية والعسكرية على الإعلام لتحقيق عدة أهداف رئيسية، وهي:

  1. إخفاء حجم الخسائر العسكرية: تسعى إسرائيل جاهدة لإخفاء الخسائر التي يتكبدها جيشها، سواء خلال هجومه البري على غزة، أو عند تمركزه داخل القطاع، أو جراء الصواريخ التي تطلق على الداخل الإسرائيلي من جبهتي غزة ولبنان. الهدف من ذلك هو تقليل الانتقادات الداخلية الموجهة للجيش والحكومة التي تدير الحرب، خاصة مع استمرار العمليات العسكرية رغم التحذيرات الداخلية والخارجية من مغبة ذلك، والدعوات إلى عدم توسيع نطاق المعركة.
  2. الحفاظ على صورة "الجيش الذي لا يقهر": تسعى إسرائيل بإستماتة للحفاظ على صورة جيشها كـ "الجيش الذي لا يقهر"، في نظر المستثمرين والجهات الغربية التي تعتمد عليه، حيث يعد الجيش الإسرائيلي نقطة ارتكاز لدولة تعتبر رأس حربة عسكرية وأمنية للمشروع الغربي في منطقة الشرق الأوسط.
  3. احتواء الذعر في الجبهة الداخلية: يهدف التعتيم الإعلامي إلى الحد من حالة الذعر التي تسود المجتمع الإسرائيلي، الذي يعاني من نزوح المستوطنين من المناطق الواقعة في مرمى الصواريخ القادمة من غزة أو جنوب لبنان، ما يضع ضغوطًا متزايدة على الحكومة في تل أبيب.
  4. إخفاء الفظائع المرتكبة ضد المدنيين: تهدف إسرائيل إلى إخفاء أو التقليل من الفظائع التي يرتكبها جيشها في غزة ولبنان، بما في ذلك قتل المدنيين وتدمير البنى التحتية، بغية تخفيض حدة الانتقادات الدولية، حتى من قبل المؤيدين لها، في ظل الأضرار الفادحة التي لحقت بسمعتها أمام الرأي العام العالمي.
  5. منع وصول المعلومات إلى المقاومة: يهدف التعتيم الإعلامي إلى منع المقاومة من الحصول على معلومات حول نقاط الضعف أو التخبط الذي يعتري الجيش الإسرائيلي، الأمر الذي قد يرفع معنويات مقاتليها ويعزز ثقة الحاضنة الشعبية بهم.

إسرائيل والحرب الإعلامية الشرسة

من المتعارف عليه أن الدول في حالة الحرب لا تترك إعلامها يعمل بحرية تامة، وذلك حفاظًا على سرية العمليات العسكرية، وضمان فاعلية الخداع، وإخفاء أنواع الأسلحة المستخدمة في القتال، والخطط والأهداف الاستراتيجية. ولم تكن إسرائيل في حروبها السابقة بمنأى عن هذه القاعدة، حيث مارست "تحديد الحقيقة"، ولكنها لم تفرض رقابة بهذه الصرامة من قبل.

فقد كانت تسمح بمساحة من التعبير لتحقيق أهداف معينة، مثل فرض معادلة الردع على الخصوم، وممارسة الحرب النفسية عليهم، وإشراك الداخل في متابعة المعركة، خاصة وأن الجيش الإسرائيلي يعتمد بشكل كبير على قوة الاحتياط، ويعبئ موارد الدولة بأكملها لدعم العسكريين في الحروب.

لكن هذه المرة، فُرض التعتيم الإعلامي الشديد لسببين جوهريين:

  • طول أمد الحرب وتفاقم الخسائر: لم تعتد إسرائيل على خوض حروب طويلة الأمد، بل تميل عادة إلى الحروب الخاطفة. ولكن في هذه المرة، وجدت نفسها في حرب استنزاف طويلة في غزة، وقد يتكرر السيناريو في لبنان. هذه الخسائر المستمرة تضغط بشدة على أعصاب الجيش والمجتمع الإسرائيلي، وعلى حكومة نتنياهو بالدرجة الأولى.
  • القدرات المتنامية للمقاومة الفلسطينية: تميزت هذه الحرب بقدرة المقاومة في غزة ولبنان على نقل المعركة إلى داخل إسرائيل نفسها، عبر الصواريخ والطائرات المسيرة، ما كسر قاعدة "الحرب خارج الحدود" أو "الحدود الآمنة" التي عاشت تل أبيب في ظلها لعقود طويلة.

ولكن هذا التعتيم الإعلامي المكثف، وبمفهوم المخالفة، يعكس مدى صعوبة الحرب التي تخوضها إسرائيل حاليًا، وهي حقيقة لا تخفى على المقاومة الفلسطينية، ولا على المحللين العسكريين والسياسيين. وربما يُكشف النقاب يومًا ما عما تم إخفاؤه، عندما تضع الحرب أوزارها، وتبدأ مرحلة الحسابات.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة